ما هي مراتب القدر؟ وما أهمية الإيمان به؟ نعلم أن الإيمان بالقدر في خيره وشره من أركان الإيمان، والله خلق القدرة والاختيار للعبد بقدر محدود، حتى يمكنانه من سلك الطريق الذي سيُجازى عليه في نهاية المطاف، على يقين بأن كل ما يحدث للعباد ليس إلا بتوفيق الله وإلهامه وقدرته سُبحانه وتعالى.

ما هي مراتب القدر

إن القدر هو الحكم الذي أوجبه الله على البشر بسابق علمه وقدرته، وجب علينا في الإسلام الإيمان به سواء كان خيرًا أم شرًا، فهو تقدير الله لما تؤول إليه الكائنات جميعًا لا البشر فحسب، كما اقتضت حكمة الخالق، القدر يأتي في اللغة من التقدير والقدرة، فالله عز وجل من صفاته العلا أنه قادر على كل شيء قدير ومقدر كل شيء وقاضيه كذلك، والمقتدر أبلغ منهما.

قال الله تعالى في سورة الأنعام: وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)”.. فالله هو من خلق القدرة على الفعل، وبإرادته يسلبها، فلا يخلق الإنسان أفعالًا من تلقاء نفسه، إلا أنه ليس مجبرًا في كل الوجوه كما أنه غير مختارًا في كل الوجوه.

كذلك ما تبين في حديث الرسول –صلى الله عليه وسلم-: “كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قالَ: وَعَرْشُهُ علَى المَاءِ” (صحيح مسلم)، لا يكون الإيمان بالقدر إلا بالإيمان بمراتبه، والتي تعود جميعها إلى صفات الله سبحانه وتعالى، وهكذا نتطرق إليها فيما يلي:

1- مرتبة العلم

أولى مراتب القدر، تأتي من الإيمان بأن الله سًبحانه وتعالى هو العالم بكل شيء، وعلمه ليس كعلم البشر، إنما علم شامل كامل لا تشوبه شائبة أو نقصان، فالله أعلم بالأمور جميعها بتفاصيلها التي لا تخفى عنه منها خافية.

تأتي تلك المرتبة من خلال إيمان العبد وإدراكه بها، وإن آمن بها لن يضل بعدها أبدًا، على أن هناك الكثير من النصوص القرآنية الدالة على تلك المرتبة من القدر، ومنها:

  • اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)” سورة الطلاق.
  • هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ ۖ هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ (22)” سورة الحشر.

2- مرتبة الكتابة

إنها المرتبة الثانية من مراتب القدر، تنم عن أن الله –سبحانه وتعالى- كتب كافة المقادير في اللوح المحفوظ، الذي يكتب فيه كل أعمال الخلق أجمعين من إنس وجن وحيوان، هذا ما تجلى في قول الله تعالى:

  • “وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22)” سورة البروج.
  • “أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ۗ إِنَّ ذَٰلِكَ فِي كِتَابٍ ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)” سورة الحج.

3- مرتبة المشيئة

تعني ضرورة الإيمان بأن الله وحده هو مقدر الأمور وواضع المقادير، وكل ما يجري في الدنيا ناتجًا عن إرادته الخالصة لا إرادة البشر، وما مُقدر له أن يحدث سيحدث ولو اجتمع الإنس والجن أجمعين على منع حدوثه، لا شيء يحدث في الكون خارج إرادة الخالق، وهذا ما تبين في قول الله تعالى:

“وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48)” سورة المائدة.

“قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)” سورة آل عمران.

4- مرتبة الخلق

هي آخر مرتبة من مراتب القدر، تعني أن الله هو خالق كل شيء وصانعه، حتى أفعال العباد، ورغم ذلك ييسر الأمر لعباده ليفعلوا الطاعات ويجتنبوا المعاصي، لأنه سبحانه يُحب الصالحين ويكره الكافرين.

فكما أنه خلق أفعال العباد فقد خلق إرادتهم وجعلها محدودة إلا أنها ما وراء قيامه بما يفعل من صالح أم طالح، لذا يكون مسؤولًا عن أعماله ويُجازى به، الدليل على أن المرء مُخير في ذلك ما جاء في قول الله تعالى:

  • “ذَٰلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۖ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ ۚ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102)” سورة الأنعام.
  • “فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27) لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)” سورة التكوير.

أهمية الإيمان بالقدر

ارتبط الإيمان بالقدر بالإيمان بالله، لأنه لا يُبنى إلا على العلم الصحيح بالذات الإلهية، وصفات الله الكاملة، ومن المعلوم أن القدر يقوم على عدة أسس لا هباءً.. ليصير هو الاختبار الأجدى لمدى معرفة العبد بربه وقربه منه، يترتب على الإيمان بالقدر اليقين الصادق من داخل العبد بقدرة الله.

فيلقى شر القدر بصبر واحتساب، ويلقى خيره بشكر وعرفان، بعد علمنا بمراتب القدر نذكر أن القدر فيه من الاستفهامات التي ما إن أطلق العبد لعقله العنان فيها لا يلقى جوابًا راجحًا، لأن العقل محدود إنما المعرفة غير محدودة، لذا كان الإيمان به خير وسيلة للعبد.

ليكون على يقين أنه لا شيء يخرج من تقدير الخالق وتدبيره، ولا محيد لأحد عما قُدر له، ولا يُمكن لعبد أن يتجاوز ما كُتب له.. وهنا نستند إلى ما قاله أشرف الخلق –صلى الله عليه وسلم-:

  • “لو أن اللهَ عذَّب أهلَ سماواتِه، وأهلَ أرضِه، عذَّبَهم وهو غيرُ ظالمٍ لهم، ولو رَحِمَهم كانت رحمتُه خيرًا لهم من أعمالِهم، ولو أنفقتَ مثلَ أُحُدٍ ذهبًا في سبيلِ اللهِ، ما قَبِلَه اللهُ منك حتى تُؤْمِنَ بالقَدَرَ، وتَعْلَمَ: أن ما أصابَك لم يَكُنْ لِيُخْطِئَك، وأن ما أخطأَكَ لم يَكُنْ لِيُصِيبَك، ولو مِتَّ على غيرِ هذا لدخلتَ النارَ” (صحيح).
  • “الْمُؤْمِنُ القَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إلى اللهِ مِنَ المُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وفي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ” (صحيح مسلم).

على أن هناك ثمرات للإيمان بالقضاء والقدر، منها:

  • النجاة من عقاب النار.
  • ذهاب الغم والحزن والبأس.
  • الإيمان المطلق بأن الخيرة دومًا فيما اختاره الله.
  • صرف المصائب عن المؤمن.
  • عدم التحسر والندم على ما مضى.
  • عدم الخوف من أذى الإنس أو الجن.
  • الأجر الكبير والثواب العظيم على تحمل الشدائد.
  • غنى النفس وعزتها والرضا بما كتبه الله تعالى.
  • احتساب الأجر عند الله وصدق الإيمان.
  • انشراح الصدر وسعادة القلب وطمأنينة النفس.

الاحتجاج بالقدر

أثير حول مراتب القدر والإيمان به كثيرٌ من الاعتراضات ممن انحرفوا عن منهاج الله، فقد وجدوا في عقيدة الإيمان بالقدر مجالًا للاحتجاج على تقصيرهم، ومن ثم يتلخص الرد على من يحتجون فيه فيما يلي:

  • علم الله أزليّ، والأمور كافتها تقع وفقًا لعلمه الكامل.
  • إن الله غنيّ عن العباد، لا تنفعه طاعة من أحدهم ولا تضره معصية، كما أن الله ليس بحاجة إلى تعذيب العباد أو جبرهم.
  • الله لا يظلم أبدًا حاشاه، وحرم على نفسه الظلم ونفاه.. لذا إن توّهم العبد بوساوس الشيطان أن الله واضع له قدر يظلمه فيجب أن يحجب فكره عن ذلك، حتى يطمئن.
  • حجة الله قامت على عباده، فالله لا يُكلف إلا البالغ العاقل، وأن الإرادة موجودة للعباد، وفاقدها لا يُكلف، وبها يختار ما بين الطاعة أو المعصية.

حكم إنكار القدر أو الإساءة إليه

لما كان الإيمان بالقدر خيره وشره واحدًا من أركان الإيمان، فإن إنكاره ينقص من الإيمان، ويدخل العبد في مداخل الكفر، فيفتقر اليقين، ويفتقر معه راحة العقل والقلب.

أما عن سب القدر أو الإساءة إليه فهو منافيًا للتوحيد، فلا يجوز سب أي شيء أوجده الله، ولا يجب عدم الصبر والسخط على المحن والشدائد.

لا يحدث شيء دون علم الخالق وإرادته، فلا حول ولا قوة إلا به، فهو من خلق العباد وكلفهم.. وجعلهم غير مجبرين على فعل شيء بل يفعلون ما يُقدره الله لهم في ظل إرادتهم المحدودة.